شبكة رصد الإخبارية
follow us in feedly

من مراجعات خبرة مصر فى سنواتها الثلاث

من مراجعات خبرة مصر فى سنواتها الثلاث
إذا لم يتح لنا أن نعرف حقيقة ما جرى فى ٣٠ يونيو، فلا أقل من أن نحاول تحرير ما جرى بعد ذلك، عسانا نعرف إلى أين نحن ذاهبون.

إذا لم يتح لنا أن نعرف حقيقة ما جرى فى ٣٠ يونيو، فلا أقل من أن نحاول تحرير ما جرى بعد ذلك، عسانا نعرف إلى أين نحن ذاهبون.

(١)

حين صدر التقرير البريطانى عن حرب العراق بعد ١٣ عاما من وقوع الحدث، كان أول ما خطر لى السؤال التالى: ما عدد السنوات التى ينبغى أن تنقضى حتى نعرف حقيقة ما جرى بمصر فى ٣٠ يونيو عام ٢٠١٣ ــ أيا كانت الملابسات التى أدت إلى التأخر فى إصدار التقرير، فقد كان مستغربا أن تستغرق عملية البحث والتحرى ذلك الوقت الطويل. وحين يحدث ذلك فى بلد راسخ القدم فى الديمقراطية والشفافية، وفى مجتمع قوى بمؤسساته فلك أن تتصور الأجل الذى يمكن أن تستغرقه العملية فى مصر، وحالة الديمقراطية فيها كما تعرف، والشفافية فيها من أسرار الدولة، أما هشاشة مجتمعها وهزال مؤسساتها فأنت أدرى به.

صحيح أن السير جون تشيلكوت الذى رأس اللجنة أدى عملا جليلا فضح فيه ما جرى فى حرب العراق، التى كانت فى حقيقتها مؤامرة نسجت خيوطها بين واشنطن ولندن قبل ١٨ شهرا من قرار بريطانيا المشاركة فى الغزو، إلا أنه خدم المؤرخين بالمجلدات الاثنى عشر التى أصدرها وضمت أكثر من ٢ مليون و٦٠٠ كلمة، أما الرأى العام فإنه أحيط علما بأمور باتت منسية، بما يعنى أن المجتمع أدرك الحقيقة فى غير أوانها.

لا أعرف متى يمكن أن يتوافر لنا فى مصر شىء من ذلك القبيل فيما خص ما جرى فى ٣٠ يونيو، أو فى الفترة السابقة على ذلك التاريخ. سواء تلك التى أعقبت اندلاع الثورة فى ٢٥ يناير عام ٢٠١١ أم فى ظل حكم المجلس العسكرى أو حكم الإخوان، لكن الذى أعرفه أن تقريرين لتقصى الحقائق أعدا عن أحداث الثورة، وفترة المجلس العسكرى، لكنهما وضعا فى أقبية الأجهزة الأمنية، التى تولت إعادة كتابة تاريخ تلك المرحلة بما يخدم أغراضها ويحقق مصالحها. أعرف أيضا أن مرحلة حكم الإخوان كتبت من وجهة نظر واحدة صاغتها بدورها الأجهزة الأمنية وعممتها وسائل الإعلام.

خلاصة الكلام أن الظرف ليس مناسبا للتعرف على حقائق ما جرى ليس فقط خلال السنوات الثلاث الأخيرة، بل أيضا أحداث السنتين السابقتين على انتفاضة يونيو ٢٠١٣. كما أننى أشك كثيرا فى أن جيلنا سيشهد مرحلة إدراك تلك الحقائق.

(٢)

لى عدة ملاحظات على الحوارات التى جرت خلال الأسبوع الماضى بخصوص دولة ما بعد ٣٠ يونيو ٢٠١٣، إحداها عن الشكل والأخريات فى الموضوع. ملاحظتى على الشكل خلاصتها أن الحوار كله تقريبا دار حول ما حدث فى مصر بعد ذلك التاريخ. وبدا ذلك تعبيرا عن حالة الانكفاء على الداخل التى خيمت على الإدراك المصرى خلال السنوات الأخيرة. وقد استغربت ذلك، لأن أصداء ٣٠ يونيو فى العالم العربى لا تقل قوة ولا جسامة عن نظيرتها فى داخل مصر. ذلك أن التحول الذى حدث آنذاك استقبل فى الخارج بحسبانه هزيمة للربيع العربى، أدت إلى إنعاش عناصر الثورة المضادة فى المنطقة وفتح الباب لتدخلات إقليمية سارعت إلى الانقضاض لإجهاض حلم التغيير الذى راود الشعوب العربية فى طول البلاد العربية وعرضها. وحين يكتب تاريخ تلك المرحلة بنزاهة وحياد، سندرك أن أحداث ٣٠ يونيو قوت من ساعد حركات العنف التى التحق بها بعض الشباب المتدين الذى فقد الأمل فى جدوى التغيير السلمى والتحول الديمقراطى. سنتعرف أيضا على تأثير تلك الأحداث على رفع مستوى الجرأة والطموح لدى الإسرائيليين، بعدما اطمأنوا إلى أن مصر انشغلت بالحرب ضد الإرهاب عن مواجهة التهديد والاحتلال الإسرائيلى. وهو ما أدى إلى إضعاف القضية الفلسطينية، وسمح لإسرائيل بالادعاء بأنها صارت تقف فى مربع واحد مع معسكر «الاعتدال العربى» لمواجهة الإرهاب، بل وسمح لها بأن توسع من اختراقها للعالم العربى والجهر بالعربدة فى أرجائه.

ربما أتاح لنا ذلك أن نعرف أيضا كيف أثر الحدث الذى شهدته مصر فى مسار الصراع بالمنطقة، بحيث تحول من شوق إلى العدل والحرية، إلى صراع ضد الإسلام السياسى واقتتال مذهبى بين السنة والشيعة، وكيف ترتب على ذلك الحدث أن مصر انسحبت من الساحة العربية جراء انشغالها بالصراع الداخلى، وأحدث ذلك فراغا تمددت فيه إيران حتى وصلت إلى اليمن وتغولت فى سوريا.

(٣)

الذين خرجوا فى الثلاثين من يونيو عام ٢٠١٣ رفعوا شعار الدولة المدنية فى مواجهة ما وصفوه بالدولة الدينية التى كان حكم الإخوان رمزا لها، لكنهم اكتشفوا بمضى الوقت حقيقة أنهم استدعوا الدولة الأمنية فى نهاية المطاف. وكان الدكتور زياد بهاء الدين نائب رئيس الوزراء الأسبق أبرز الذين أثاروا هذه النقطة، فى مقالته التى نشرتها له جريدة «الشروق» (عدد ٤/٧) وحاول فيها الإجابة عن السؤال: هل أخطأ التيار المدنى بالمشاركة فى ٣٠ يونيو؟

فى إجابته ذكر أن ما جرى تسميته فى ٣٠ يونيو بالتيار المدنى لم يكن كتلة واحدة، بل توافقا واسعا ومؤقتا بين كتل وتيارات متنوعة جمعها قاسم مشترك هو الرغبة فى إسقاط الحكم الإخوانى. وفى رأيه أن التيار المدنى لم يخطئ بالمشاركة فى ٣٠ يونيو، وكان خطؤه أنه لم ينجح فى الاستمرار فى توحده، واعتبر أنه «لا يوجد تناقض بين معارضة ذلك التيار لحكم الإخوان وبين الاستمرار

فى معارضة ما يلمسه الآن من مظاهر الاستبداد والتضييق على الحريات وإهدار دولة القانون».
فى مرافعته أغفل الدكتور زياد أمرين، أولهما أنه لا يوجد فى مصر ما يمكن أن يسمى تيار مدنى حقيقى، ولكن هناك أشخاصا يؤمنون بالدولة المدنية والديمقراطية، وهؤلاء لم ينجحوا فى تأسيس ما يمكن أن يسمى تيارا يمثل قوة مجتمعية قادرة على التأثير فى القرار السياسى. وإذ أشار إلى هذا المعنى فى مقالته، إلا أنه ظل يتحدث عنه باعتباره «تيارا» يشكل ما وصفه بالمعسكر الديمقراطى، الذى هو فى حقيقة الأمر عناصر نخبوية لا حضور لها على أرض الواقع.

الأمر الثانى الأهم الذى أغفله أن التحالف الذى تشكل فى ٣٠ يونيو وراهن فيه رموز التيار المدنى على المؤسسة الأمنية والعسكرية لإحداث التغيير المنشود كان بمثابة الخطوة الأولى على طريق إقامة الدولة الأمنية التى يدعو إلى معارضتها الآن. وهو ما يقتضى مراجعة المصطلح الرائج بهذا الخصوص. فالرموز التى شاركت فى التحالف وأيدت وبررت مختلف الانتهاكات التى تمت بعد ذلك التاريخ تخلت عمليا عن شعاراتها الديمقراطية، وكان انحيازها إلى العلمانية أكبر بكثير من التزامها بالدولة المدنية. إذ أثبتت التجربة أن خصومتها للإسلام السياسى كانت ومازالت العنصر الحاكم لموقفها. وإذا كانت بعض الشخصيات قد ظلت على وفائها لقيم المجتمع المدنى والديمقراطية، فإن ذلك يعد استثناء من القاعدة. والاستثناء لا حكم له كما يقول الأصوليون.

(٤)

ما جرى أفضى إلى نتيجتين أولاهما تمثلت فى انتهاء عصر الحكم المدنى. والحكم الذى أعنيه لا يرتبط فقط بالزى الذى يرتديه صانعو القرار السياسى، وإن كان لذلك دلالته، وإنما الأهم من ذلك أنه يتجلى أيضا فى فكرة تعدد المؤسسات والفصل بين السلطات، الأمر الذى يحقق التوازن بين السلطة والمجتمع. والوضع الراهن فى مصر يعانى من الأمرين. حيث تعاظمت مركزية السلطة وغاب دور المؤسسات، حتى أصبح القرار السياسى لغزا يصعب تفسيره أو فهمه ويستعصى التعرف على آلياته وخلفياته. وملف القرارات السياسية والاقتصادية والمشروعات التى وصفت بأنها عملاقة حافل بالنماذج التى تشهد بذلك.

النتيجة الثانية التى آل إليها الوضع فى مصر الراهنة مترتبة على الأولى وتتمثل فى موت السياسة. ولعل سؤال «أين الأحزاب؟» الذى طرحه رئيس تحرير «الشروق» الأستاذ عماد الدين حسين فى عموده اليومى (عدد ٧/٤) يلخص الفكرة التى أتحدث عنها. ذلك أنه يبدو مفارقا ومدهشا أن يشير موقع الهيئة العامة للاستعلامات الرسمية إلى وجود أكثر من ٨٥ حزبا فى مصر الراهنة، ثم يطرح السؤال: أين الأحزاب؟! ــ وهى لقطة يختزلها قول الشاعر: أفتح عينى على كثير لكنى لا أرى شيئا. وحين يحدث ذلك فإنه يذكرنا بنموذج أحزاب «الديمقراطيات الشعبية الاشتراكية»، التى هى جزء من الديكور السياسى الذى تتجمل به الدولة ولا تعول على وظيفة له.

هذا الغياب لدور الأحزاب مفهوم فى تقاليد الدولة الأمنية. ولا أظن أن دعوة الأستاذ عماد حسين للحكومة أن تساعد الأحزاب المدنية كى تصبح «قوية وفاعلة» تمثل علاجا صائبا للأزمة. ذلك أن المشكلة تكمن فيما تمثله تلك الأحزاب من ناحية، وفى المناخ والبيئة السياسية التى لا تستسيغ ولا تتحمل التعددية السياسية والمشاركة المجتمعية من ناحية ثانية.

من المفارقات أن بعض الأصوات التى تتحدث باسم الأحزاب العلمانية وهى ترفع شعار المدنية والديمقراطية أصبحت تتعامل بتأفف وقرف شديدين مع الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية. إذ اختزلت المرجعية الأخيرة فى الإخوان ــ وهذا غير صحيح ــ ثم اعتبرت أن الأحزاب العلمانية هى الممثل الشرعى الوحيد للحلم المصرى، وتلك أكذوبة أخرى. لأن من ينكر الهوية الإسلامية للمجتمع المصرى لا يختلف كثيرا عمن يحاول حجب قرص الشمس بكف يده. وقد قرأت لأحدهم أخيرا قوله إن الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية ظلت «تتسول» اعتراف القوى المدنية والديمقراطية بأنها تنتمى إليها. وبدلا من الدعوة إلى إطار يسع الجميع وتحترم فى ظله قيم الديمقراطية وقرار الأغلبية، فإن تلك الأصوات تستقوى بالمؤسسة العسكرية والأمنية وتدعو إلى ديمقراطية الإقصاء والاستثناء. وذلك يضعنا إزاء موقف عبثى تدعو فيه الأحزاب الوهمية إلى إقامة ديمقراطية وهمية.



تنفيذ و استضافة وتطوير ميكس ميديا لحلول الويب تنفيذ شركة ميكس ميديا للخدمات الإعلامية 2023